تربية النحل عبر العصور

 

إعداد د. نزار حداد

مقارنة مع غيره من الكائنات الحية كان لنحل العسل مكانة خاصة عند جميع شعوب الأزمنة القديمة. حيث كانت هذه الحشرة  العجيبة مكان إعجاب عند جميع الشعوب ومصدر إلهام لكثير من المعتقدات الأساطير والقصص والأشعار والأمثال.

قبل حوالي ستة آلاف سنة في بلد الأهرام العظيمة والفراعنة قام ملك مصر في ذلك العصر بتوحيد مملكة النيل الأعلى بمملكة النيل الأسفل، وكان شعار النيل الأعلى هو زهرة اللوتس آما النيل الأسفل فكان شعاره نحلة العسل. كما كان قدماء المصريين يرسمون نحل العسل على قبور فراعنتهم تعبيرا عن وفائهم لهم، إذ كانوا يؤمنون أن نحل العسل صديق الإنسان ومساعد في طرد الأرواح الشريرة. فنجد على مقابر الفراعنة (3200 - 2780  ق.م) العديد من رسومات النحل، كما أنه يزين العديد من معابد الفراعنة في لوحات تبين عملية تربية النحل وجني العسل وتخزينه.

 

 

 

 

والجدير بالذكر أن قدامى المصريين تميزوا أيضا في أنهم أول من ابتدع النحاله المتنقلة، وكانوا يحملون نحلهم على القوارب لتكون القوارب هي المنحل وكانوا يبدأون رحلتهم  من جنوب نهر النيل وينطلقون معه شمالا سعيا وراء المرعى الأفضل. وبعد وصولهم إلى العاصمة كانوا يقطفون العسل ويبيعونه بأسعار باهظة ثم يعودون بالقوارب ذاتها حاملين خلاياهم إلى جنوب النيل، وكانوا يستدلون على موعد قطاف العسل بعلامات على جوانب القارب فإذا وصل حد الماء عند العلامة عرفوا بأن وزن القارب قد ازداد ما يعني أمتلاء الأقراص الشمعية بالعسل.  وكان المصريون القدامى قد تميزوا عن غيرهم في صناعة خلايا نحل العسل، وكانوا يصنعون أسطوانات من القصب ويطلونها بالطين الممزوج بالتبن وهي تشبه إلى حد بعيد الخلايا البلدية (دندوق) والتي مازالت مستخدمة وبشكل محدود حاليا في بعض مناطق  الأردن وبلاد الشام.      

في الهند كان نحل العسل مقدسا، حيث كانوا يعتقدون أنه  مرشد للآلهة ومرافق لها. وفي جميع الصور المرسومة للإله الهندي كريشنا "مانح الحياة" تجد بأن نحل العسل يطير فوق رأسه وكأنه ينقل له أخبار المعمورة. أما إله الحب "كارما"  فهو مرسوم وفي يده قوس رماية ذو وتر مكون من مجموعة من النحل الذي يمسك بعضه ببعضا مكونا بذلك وترا قويا. ويرمز القوس بأكملة إلى حلاوة الحب التي يمنحها هذا الإله وشدة الألم التي تصاحب هذا الحب. ويمكن للباحث في أشعار وكتابات الهند أن يجد الكثير من العبارات الجميلة التي تصف حياه النحل بصورة باهرة  وقريبة من الواقع العلمي، وكان العسل يستخدم كدواء للعديد من الأمراض. واستخدم الهنود قبل حوالي أربعة قرون خلت البروبوليس (العكبر) كعلاج لبعض الأمراض.

 

 أما الطب الصين القديم فلم يكتف باستخدام العسل نفسه فحسب، بل وكانوا يصفون لسع النحل كعلاج لبعض المرضى .

وحوالي ألف سنة قبل الميلاد كانت بلاد الآشوريين تدعى بأرض العسل وشجر الزيتون. وفي عهد سارغون الأول وبعد موته ( 2050   -1950    ق.م)  كن جسم الميت يطلي بالشمع ويغطى بالعسل. وبنفس الطريقة تم نقل جثمان الاسكندر المقدوني بعد معاملته بالشمع والعسل.

 

 

 عمص نقدية من مدينة بابل التاريخية تحمل سوره نحل العسل

 

في بداية عصر ازدهارهم استطاع الإغريق والرومان  فهم  ضرورة الاستخدام الأمثل للطبيعة بحيث لا يلحق بها الإنسان ضررا. فالإغريق كانوا ينقلون النحل بنفس الطريقة التي كان يستخدمها قدامى المصريين وهي نقل خلايا النحل على القوارب إلى الأماكن الغنية بالأزهار. وفي مدينة أفسس كان اليونانيون قد شيدوا معبدا مشهورا للآلهة (ارطاميس)، يظهر منه تمثال ارطاميس مزينا بتاج من أغصان الفاكهة ترتاح عليه مجموعة كبيرة من النحل. وكان يطلق على خدام هذا المعبد لقب (ميليس) إي نحل العسل. وأما شعار مدينة (أفسس) والتي كانت أغني مدينة في عصرها بين مدن اليونان فكان نحلة العسل. إضافة إلى أن اليونان والرومان قدموا لآلهتهم قرابين تتكون من جزأين حيواني من الغنم  ونباتي من الفاكهة وعليها سكيب من العسل.

 

 

     

 عملة نقدية من مدينة افسس التاريخية تحمل صورة النحل

 

كما عرف ارسطوا وابوقراط (4 - 3 ق.م) حياه نحل العسل  جيدا. فقد  تحدثا عن استخدام العسل كعلاج للعديد من الأمراض. كما كتب فيثاغورس عن حياة نحل العسل وعن منتجاته وكذلك فعل الكثير من علماء وفلاسفة عصره العصر.

 

وننتقل إلى  الديانات التوحيدية لنجد أنها لم تقم  بتقديس النحل والعسل، بل اكتفت بوصف النحل ونشاطه وتشبه الأشياء الجميلة والجيدة به مبينة سلوك النحلة وحلاوة عسلها وتنصح اتباعها بتناول العسل لأسباب صحية بحتة وتصف الجنة بأن فيها أنهار من العسل.

ففي التوراة نجد كلمات الله عز وجل واصفا الأردن وفلسطين للنبي إبراهيم علية السلام قائلا "أرض تفيض لبنا وعسلا"[1] ، ونقرأ فيه أن بني إسرائيل تداولوا العسل كهدية وكدواء[2] ،  كما وصف النبي  داود عليه السلام مخافة الله ونقاء قلب المؤمن قائلا : "خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد. أحكام الرب حق كلها. أشهى من الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهد." [3]. كما يوصي سليمان الحكيم عليه السلام بأكل العسل قائلا "يا بني كل عسلا"[4] وتشير العديد من الآيات في التوراة إلى أن النحل كان يعيش بصورة برية في الصخور في فترة ما قبل القرن الأول للميلاد فجاء على لسان داود "ومن الصخر كنت أشبع عسلا"[5]، كما كان العسل يجمع ويخزن مثله مثل القمح والشعير والزيت وكان العسل في ذلك العصر متداول بين الناس كسلعه تجارية[6]

وفي العهد الجديد (الإنجيل المقدس) يذكر أن يوحنا المعمدان (النبي يحيا علية السلام)  كان يتغذى على العسل البري[7]  الأمر الذي يؤكد بأنه كان هناك طريقتان في الحصول على العسل وهما جمع عسل الخلايا البرية وتربية النحل للحصول على العسل. ومن الجدير بالذكر أن  النبي يوحنا عاش في منطقة غور الأردن مدة من الزمن وهو صاحب المغطس المشهور في وادي الخرار. كما يذكر العهد الجديد أن السيد يسوع المسيح عليه السلام آكل مع تلاميذه  سمكا مشويا وشيئا من شهد العسل حيث يقول  "فناولوه (أي ناول الحواريون السيد المسيح) جزءا من سمك مشوي وشيئا من شهد العسل (أي عسل بشمعه)"[8]. كما يصف العهد الجديد كلمة الله عز وجل بأنها "حلوه كالعسل"[9] ، وبشكل عام فلقد ورد ذكر العسل والنحل والشهد في الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد في واحد وستون موطنا.

وفي القران الكريم وردت سورة  واسمها سورة النحل وفيها الآيات التالية "وأوحي ربك إلى النحل أن أتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا  يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون"[10] ويعلق الدكتور البنبي (باحث مصري معاصر) حول هذه الآيات قائلا "إن هاتين الآيتين تتضمنان معاني كبيرة لم يسبق ذكرها في الآيات القرآنية الأخرى، فقد بدئتا بوحي الله للنحل حيث لم يذكر وحيه (سبحانه وتعالى) لأي من الكائنات غير المكلفة الأخرى"[11] كما ذكر العسل في الآيات القرآنية عند وصف الجنة "وأنهار من عسل مصفى"[12].

 ويدخل العسل في الطب النبوي، وورد أيضا ذكر نحل العسل في العديد من كتب العرب والمسلمين. وكتب ابن سينا قبل حوالي ألف عام عن العسل واستخدامه كعلاج للعديد من الأمراض كما قال أن العسل يفتح الشهية ويحافظ على رشاقة الجسم ويقوي الذاكرة وينمي القدرات الفكرية.  

بالرغم من كل ما ذكر فإن تربية نحل العسل بقيت تعاني الكثير بسبب الضرر الذي كان يلحقه الإنسان بالخلية عند جمع العسل حيث كان الإنسان يستخدم طرقا عديدة في جمع العسل منها إشعال النار قرب الخلية ليهرب النحل وينفرد الإنسان بالعسل، ومع التقدم صار يستعمل  التدخين على النحل بصورة شديدة كي يهجر الخلية فيتمكن الإنسان من جمع العسل، ومع أن الإنسان وإن كان حذرا وحاول إتباع صورة اكثر رفقا في التعامل مع النحل إلا انه كان يلحق الضرر الكبير عند جني العسل. فمثلا كان يقص الأقراص الشمعية بعد فتح الخلية بصورة تزعج النحل وبعد ذلك ينتهي الأمر بهذه الأقراص إلى العصر، مما يضطر النحل إلى بناء أقراص أخرى من جديد. واستمر الحال هكذا إلى أن تعلم الإنسان الإبقاء على الأقراص سليمة.

تنوعت أشكال خلايا النحل مع تنوع البيئة والمواد المتوفرة. فمنها ما كان مصنوعا من أغصان كبيرة مجوفة في بعض مناطق أفريقيا وأوروبا، أو مجموعة من الأغصان الرفيعة والتي تبنى على شكل أسطوانة تطلى بالطين المخلوط بالتبن. وانتشرت في بعض مناطق أرمينيا وشمال تركيا، أو من القش الملفوف في حزم والمبني على شكل مخروط، وهذا الشكل كان منتشرا في جنوب روسيا و أوكرانيا وبعض مناطق أوروبا. وفي بلاد الشام صنعت الخلايا من الجبس أو الفخار أو القصب المطلي بالطين (الدندوق).

 

خلايا نحل بلدية تستخدم في الاردن وبلاد الشام  من الطين والقصيب

 ولكن رغم تنوع هذه الأشكال إلا أن نحل العسل بقي يعاني مدة طويلة عبر العصور، حتى قام النحال الأوكراني بيتر بروكوبافيش (1772-1850م) بصناعة خلية متحركة الأقراص. واستطاع القس الأمريكي لنجستروث في عام 1851 ملاحظة أن نحل العسل دائما يترك مسافة ثابتة ومعينة بين الأقراص (5/16 بوصلة) الأمر الذي ساعده في تصميم خلية بإطارات متحركة بالمسافات المحددة  بين الأقراص، وكان هذا الاكتشاف بمثابة ثورة في عالم تربية النحل، حيث يستطيع النحال تحريك الأقراص من مكان إلى أخر داخل الخلية وبين الخلايا حسب الحاجة، كما تمكنه من جمع العسل دون إزعاج النحل. في عام (1856م) تمكن الألماني يوهأنز مهرنج  من صناعة شمع الأساس  والذي ساهم في توفير أقراص شمعية منتظمة الشكل توفر على النحل الجهد المبذول في بناء هذا الشمع. وتوالت الأحداث بسرعة هائلة حتى استطاع النمساوي فرون هروشكا في سنة 1865 أن يصمم جهاز فرز العسل، الأمر الذي ساعد النحل بشكل كبير جدا حيث يتم إعادة الأقراص الشمعية المبنية بالعيون السداسية إلى النحل الأمر الذي خفف من الجهد والعناء الذي يبذله  النحل في بناء هذه الأقراص مما زاد إنتاج العسل بشكل كبير جدا.

 خلية نحل اوروبية مصنوعة من القش

 

وفي عام 1861 م صدرت أول مجلة تبحث في تربية النحل، كما اصدر العلماء الألمان والروس كما هائلا من الكتب التي تبحث في هذا المجال الواسع ومع انتشار المطبوعات وسهولة الحصول عليها نسبيا تطورت تربية النحل بسرعة هائلة من حيث الأدوات المستخدمة وتجارة الطرود والأدوية وغيرها من لوازم النحل.

وما أن تم ظهور  شبكة الإنترنت وتسيرها في التجارة والعلم والاتصالات، حتى سارعت المراكز العلمية المتخصصة في تربية النحل إلى نشر إنجازاتها ونصائحها على الشبكة، كما نشرت العديد من الشركات التجارية منتجاتها في هذا المجال. فأصبحت المعلومات في متناول الباحث والنحال المثقف. ويمكن القول أن ما وفرته شبكة الإنترنت للنحال المثقف يساوي في أهميته ما قدمه العلماء المبدعون أمثال   بروكوبافيش و لنجستروث و هروشكا وغيرهم من عباقرة هذا العلم.

وبذا استمرت المسيرة الطيبة والطويلة في التعامل مع نحل العسل وتوظيف طاقاته الهائلة في خدمة الإنسانية، وبقي هذا الكائن الصغير العجيب مصدر إعجاب وإلهام الكثيرين وبقيت نحلة العسل ومنتجاتها ذات مكانة محترمة في حياة الإنسان وفكرة.

 

المراجع: 

 -  دارم عزت الطباع. 1991. أمراض النحل وآفاته. دار المعارف بحمص. سوريا.

 -  عبد الخالق وفا. 1953. نحل العسل والنحالة.دار الفكر العربي. مصر.

 -  محمد علي البنبي. 1994 . نحل العسل ومنتجاته. دار المعارف. مصر.

 -   محمد علي البنبي.1995. نحل العسل في القرآن والطب. دار المعارف. مصر.

 -  محمد ميهوب. 1996. النحالة الحديثة. إتحاد الغرف الزراعية السورية. سوريا.

 

 -  Euoresh N.P. 1969. Bees and human. Kiev . Ukraine (In Russian)    

 -  Krebotsov N. E., Lebedev V. U. 1993. Honey bee. Neva Rossee. Russia (In Russian)

- www.beekeeping.com

 -  www.beekeeping.8k.com.

 

 

 


[1] - سفر التكوين الإصحاح 34 : 8

[2] -  سفر التكوين الإصحاح  34 : 11

[3] - مزمور 19 أية رقم 9-10

[4] -  أمثال الإصحاح 24 أية 13

[5] -  مزمور 81 أية 16

[6] -  ارميا الإصحاح 3 : 3، حزقيال الإصحاح 27 : 17

[7] - متى الإصحاح 3 : 4 ، مرقس الإصحاح 1 : 5

[8] - لوقا الإصحاح 24 : 42

[9] - رؤيا يوحنا الإصحاح 10 :9-10

[10] - سورة النحل 68-69

[11] - د. محمد البنبي. نحل العسل في القرآن والطب. ص5

[12] -   سورة محمد 15